فصل: قال الجاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{تُبْتُ}
أيْ هلكَتْ {يَدَا أَبِى لَهَبٍ} هُو عبدُ العُزَّى بنُ عبدِ المطلبِ وإيثارُ التبابِ على الهلاكِ وإسنادُهُ إلى يديهِ لما رُويَ أنَّهُ لما نزلَ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} رَقَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّفَا وجمعَ أقاربَهُ فأنذرهُم فقال أبُو لهبٍ: تبًا لكَ ألِهذَا دعوتَنَا؟ وأخذَ حجرًا ليرميهِ عليهِ السلام بهِ {وَتَبَّ} أيْ وهلكَ كُلُّه وقيلَ: المرادُ بالأولِ هلاكُ جملتِه كقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} ومَعْنى وتَبَّ وكانَ ذلكَ وحصلَ كقول من قال:
جَزَانِي جَزَاهُ الله شَرَّ جزائِه ** جزاءَ الكلابِ العاوياتِ وَقَدْ فَعَلْ

ويؤيدُه قراءة من قرأ وقَدْ تَبَّ وقيلَ: الأولُ إخبارٌ عن هلاكِ عملِه لأنَّ الأعمالَ تزاولُ غالبًا بالأيدِي والثانِي إخبارٌ عن الهلاك نفسه وقيل كلاهما دعاء عليه بالهلاك وقيل الأول دعاء والثاني إخبار وذِكرُ كنيتِه للتعريضِ بكونِه جُهنميًا ولاشتهارِه بهَا ولكراهةِ ذكرِ اسمِه القبيحِ وقرئ أَبُو لهبٍ كما قيلَ: علي بن أبُو طالبٍ وقرئ أبي لَهْبٍ بسكون الهاء {مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أيْ لَمْ يُغنِ عنْهُ حينَ حَلَّ بهِ التبابُ على أنَّ ما نافيةٌ أو أيُّ شيءٍ أغنَى عنْهُ على أنَّها استفهاميةٌ في مَعْنى الإنكارِ منصوبةٌ بمَا بعدَها أصلُ مالِه وما كسبَهُ مِنَ الأرباحِ والنتائجِ والمنافعِ والوجاهةِ والأتباعِ أو مالُه الموروثُ من أبيهِ والذي كسبَهُ بنفسِه أو عملُه الخبيثُ الذي هُو كيدُه في عداوةِ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلام أو عملُه الذي ظَنَّ أنَّه منْهُ على شيءٍ كقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} وعَنِ ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا ما كسبَ ولدهُ ورُويَ أنه كانَ يقول: إنْ كانَ ما يقول ابنُ أخِي حقًا فأنَا أفتدِي منْهُ نفسِي بمالِي وولدي فأستخلصُ منهُ وقد خابَ مرجاهُ وما حصلَ ما تمناهُ فافترسَ ولدهُ عتبةَ أسدٌ في طريقِ الشامِ بينَ العيرِ المكتنفةِ بهِ وقدْ كانَ عليهِ السلام دعَا عليهِ وقال: «اللهم سلطْ عليهِ كلبًا من كلابكَ» وهلك نفسه بالعدسةِ بعدَ وقعةِ بدرٍ لسبعِ ليالٍ فاجتنبَهُ أهلُهُ مخافةَ العدوَى وكانتْ قريشٌ تتقيهَا كالطاعونِ فبقَي ثلاثًا حتى أنتنَ ثم استأجرُوا بعضَ السودانِ فاحتملُوه ودفنُوه فكانَ الأمرُ كما أخبرَ بهِ القرآن.
{سيصلى} بفتحِ الياءِ وقرئ بضمِّها وفتحِ اللامِ بالتخفيفِ والتشديدِ والسينُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِه أيْ سيدخلُ لا محالةَ بعدَ هذا العذابِ العاجلِ في الآخرةِ {نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} أيْ نارًا عظيمةً ذاتَ اشتعالٍ وتوقدٍ وهيَ نارُ جهنمَ وليسَ هذا نصًا في أنَّه لا يؤمنُ أبدًا حَتَّى يلزمَ تكليفُه الإيمانَ بالقرآن مكلفًا بأنُ يؤمنَ بأنَّهُ لاَ يؤمنُ أبدًا فيكونَ مأمورًا بالجمعِ بينَ النقيضينِ كما هُوَ المشهورُ فإنَّ صِلي النارِ غيرُ مختصَ بالكفارِ فيجوزُ أنْ يفهمَ أبْو لهبٍ من هذا أنَّ دخولَهُ النارَ لفسقِه ومعاصيهِ لا لكفرِهِ فلا اضطرارَ إلى الجوابِ المشهورِ من أنَّ ما كلفَهُ هُوَ الإيمانُ بجميعِ ما جاءَ بهِ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلام إجمالًا لا الإيمانُ بتفاصيلِ ما نطقَ بهِ القرآن حتَّى يلزمَ أنْ يكلفَ الإيمانَ بعدمِ إيمانِه المستمرِ {وامرأته} عطفٌ على المستكنّ في سيصلَى لمكانِ الفصلِ بالمفعولِ وهيَ أمُّ جميلٍ بنتُ حربٍ أختْ أبي سفيانَ وكانتْ تحملُ حزمةً من الشوكِ والحَسَكِ والسعدانِ فتنثرَها بالليلِ في طريقِ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلام وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلام يطؤُه كمَا يطأُ الحريرَ وقيلَ: كانتْ تمشِي بالنميمةِ ويقال لمنْ يمشِي بالنمائمِ ويفسدُ بينَ الناسِ يحملُ الحطبَ بينهُمْ أيْ يوقدُ بينهُم النارَ {حَمَّالَةَ الحطب} بالنصبِ على الشتمِ والذمِّ وقيلَ: على الحاليةِ بناءً على أنَّ الإضافةَ غيرُ حقيقيةٍ إذِ المرادُ أنَّها تحملُ يومَ القيامةِ حزمةً من حطبِ جهنمَ كالزقومِ والضريعِ.
وعن قتادةَ أنَّها معَ كثرةِ مالِها كانتْ تحملُ الحطبَ على ظهرِهَا لشدةِ بُخْلها فعيرتْ بالبخلِ فالنصبُ حينئذٍ على الشتمِ حتمًا وقرئ بالرفعِ على أنَّه خبرٌ وامرأتُهُ مبتدأٌ وقرئ حمالةٌ للحطبِ بالتنوينِ نصبًا ورفعًا وقرئ مُريَّتُهُ بالتصغيرِ للتحقيرِ {فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخرٍ والجملةُ حاليةٌ وقيلَ: الظرفُ خبرٌ لامرأتِه وحبلٌ مرتفعٌ بهِ على الفاعلية وقيلَ: هُو حالٌ من امرأتِه على تقديرِ عطفِها على ضميرِ سيصلَى وحبلٌ فاعلٌ كما ذُكرَ والمسدُ ما يُفتلُ من الحبالِ فتلًا شديدًا من ليفِ المقلِ وقيلَ: من أيِّ ليفٍ كانَ وقيلَ: من لُحاءِ شجرٍ باليمنِ وقَدْ يكونُ من جلودِ الإبلِ وأوبارِها والمَعْنى في عنقِها حبلٌ ممَّا مسدَ من الحبالِ وأنها تحملُ تلكَ الحزمةَ من الشوكِ وتربطُها في جيدِها كما يفعلُ الحطابونَ تخسيسًا بحالِها وتصويرًا لهَا بصورةِ بعضِ الحطاباتِ من المواهنِ لتمتعضَ من ذلكَ ويتمعضَ بعلُها وهُما في بيتِ العزِّ والشرفِ.
قال مُرةُ الهَمْدانيُّ: كانتْ أمُّ جميلٍ تأتِي كُلَّ يومٍ بإبالةٍ من حَسَكٍ فتطرحُها على طريقِ المسلمينَ فبينَا هي ذاتَ ليلةٍ حاملةٌ حزمةً أعيتْ فقعدتْ على حجرٍ لتستريحَ فجذبَها الملكُ من خلفِها فاختنقتْ بحبلِها. اهـ.

.قال الجاوي:

سورة أبي لهب وتسمى سورة تبت مكية.
خمس آيات.
ثلاث وعشرون كلمة.
سبعة وسبعون حرفا.
{تَبَّتْ} أي هلكت {يَدا أَبِي لَهَبٍ} هو عبد العزى بن عبد المطلب، {وَتَبَّ} (1) أي هلك هو، فالأولى: مشت تمشية الدعاء عليه. والثانية: أخرجت مخرج الخبر، أي وقد حصل الهلاك عليه، فهذه الجملة على هذا على تقدير: قد، ويؤيده قراءة ابن مسعود {وقد تب} بالتصريح بقد.
وقيل: كل واحد من الجملتين أخبار ولكن أريد بالجملة الأولى هلاك عمله، وبالثانية هلاك نفسه، فإن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله، فأخبر اللّه تعالى أنه محروم من الأمرين.
روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ذات يوم وقال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ قال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقونني؟» قالوا: بلى، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، فقال: عند ذلك أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا! فنزلت هذه السورة.
وروي أنه قال: فما لي إن أسلمت؟ فقال: «ما للمسلمين» فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بماذا تفضل؟» فقال: تبا لهذا الدين أستوي فيه أنا وغيري.
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه نهارا فأبى، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت». فقال: لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلى الله عليه وسلم للجدي: «من أنا؟» فقال: رسول اللّه. وأطلق لسانه يثني عليه صلى الله عليه وسلم، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ بيدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر! فقال الجدي: بل تبا لك. فنزلت هذه السورة على وفق ذلك تبت يدا أبي لهب لتمزيقه يدي الجدي، وقد حصل له وجود الاعتقاد الباطل، والقول الباطل، والعمل الباطل {ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ} (2) أي أيّ تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه، فإنه لا أحد أكثر مالا من قارون، فهل دفع الموت عنه؟ ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه؟ أو لا ينفع أبا لهب ماله وكسبه عند ذلك، ف (ما) في {ما أغنى} للنفي؟ أو للاستفهام و{ما} في {ما كسب} إما مصدرية أو موصولة حذف عائدها، أو استفهامية أي أيّ شيء كسب فينفعه.
روي أن أبا لهب كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فاستخلص منه، وقد خاب مرجاه وما حصل ما تمناه، فافترس أسد ولده عتيبة بالتصغير في طريق الشام فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. والكسب: هو أرباح ماله.
وقيل: نتاج ماشيته.
وقال ابن عباس: وما كسب هو ولده والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» وقال صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك».
ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال. والعدسة: بثرة تخرج بالبدن فتقتل، {سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ} أي سيدخل أبو لهب في الآخرة نارا عظيمة ذات اشتعال..
وقرئ بضم الياء وفتح اللام مخففا ومشددا.
{وَامْرَأَتُهُ} معه أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان صخر بن حرب، واسمها العواء. وقيل: اسمها أروى..
وقرئ و{مريئته} بالتصغير للتحقير، {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (4) وماتت مخنوقة بحبلها وكانت لشدة عداوتها للنبي صلى الله عليه وسلم تحمل بنفسها الشوك والحطب، فتنثره بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه السلام يطؤه كما يطأ الحرير.
وقرأ عاصم بالنصب على الشتم، أو على الحال إذا أريد بحمل الحطب في مطلق الزمن.
وقرأ الباقون بالرفع على أنه نعت لـ: {امرأته} إذا أريد به المضي..
وقرئ {حمالة للحطب} بالتنوين نصبا ورفعا فالرفع على الخبر لـ: {امرأته}، والنصب على الشتم أو على الحال من {امرأته} إن جعلناها مرفوعة بالعطف على الضمير المستتر، فإنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب النار كما كانت تحمل الحطب في الدنيا لأذية الرسول، وحينئذ فجملة {في جيدها} في موضع الحال من {امرأته} وإن جعلناها مرفوعة بالابتداء فجملة {في جيدها} إلخ هو الخبر.
{فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} (5) أي من حديد في الآخرة، فقد قال ابن عباس: هو سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، ويكون سائرها في عنقها...
قتلت من حديد قتلا محكما ويقال: أي في عنقها رسن من ليف المقل وهو شجر الدوم الذي اختنقت به وماتت.
قال قتادة والضحاك: إن العواء كانت تعيّر رسول اللّه بالفقر فعيّرها اللّه بأنها كانت تحتطب في حبل من ليف تجعله في جيدها، فخنقها اللّه تعالى به، فأهلكها. اهـ.

.قال الألوسي:

{تُبْتُ}
أي هلكت كما قال ابن جبير وغيره ومنه قولهم أشابة أم تابة يريدون أم هالكة من الهرم والتعجيز أي خسرت كما قال ابن عباس وابن عمر وقتادة وعن الأول أيضًا خابت وعن يمان بن وثاب صفرت من كل خير وهي على ما في البحر أقوال متقاربة.
وقال الشهاب أن مادة التباب تدور على القطع وهو مؤد إلى الهلاك ولذا فسر به.
وقال الراغب هو الاستمرار في الخسران ولتضمنه الاستمرار قيل استتب لفان كذا أي استمر ويرجع هذا المعنى إلى الهلاك {يَدَا أَبِى لَهَبٍ} هو عبد العزى بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد المعاداة والمناصبة له عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك ما في المجمع عن طارق المحاربي قال«بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا هو محمد صلى الله عليه وسلم يزعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهيب يزعم أنه كذاب».
وأخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: «لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يابني عدى لبطنون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم، ما جربنا عليك الاَّ صدقاء قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبًّا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا فنزلت ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرًا ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ومن هذا يعلم وجر إيثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم واسناده إلى يديه.
وكذا مما روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أيضًا أن أبا لهب قال لما خرج من الشعب وظاهر قريشًا أن محمدًا يعدنا أشياء لا نراها كائنة يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يديه ثم نفخ في يديه ثم قال تبا لكما ما أرى فيكما شيئًا مما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فنزلت {تبت يدا أبي لهب} ومما روي عن طارق يعلم وجه الثاني فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما.
وقوله سبحانه: {وَتَبَّ} دعاء بهلاك كله وجوزان يكونا أخبارين بهلاك ذينك الأمرين والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع.
وقال الفراء الأول دعاء بهلاك جملته على أن اليدين اما كناية عن الذات والنفس بما بينهما من اللزوم في الجلمة أو مجاز من إطلاق الجزء على الكل كما قال محيي السنة والقول في رده أنه يشترك أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا.
وفي قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] أو المراد على ما قيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في إطلاق العين على الربيئة واليد على المعطي أو المتعاطى لبعض الأفعال فإن الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو والثاني أخبار بالحصول أي وكان ذلك وحصل كقول النابغة:
جزاني جزاه الله شر جزائه ** جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

واستظهر أن هذه الجملة حالية وقد مقدرة على المشهور كما قرأ به ابن مسعود وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس في سبب النزول فنزلت هذه السورة {تبت يدا أبي لهب وقد تب} وعلى هذه القراءة يمتنع أن يكون ذلك دعاء لأن قد لا تدخل على أفعال الدعاء وقيل الأول أخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده ولم ينفعه لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبًا والثاني أخبار عن هلاك نفسه وفي التأويلات اليد بمعنى النعمة وكان يحسن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قريش ويقول إن كان الأمر لمحمد فلي عنده يد وإن كان لقريش فكذلك فأخبر أنه خسرت يده التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم بعناده له ويده التي عند قريش أيضًا بخسران قريش وهلاكهم في يد النبي عليه الصلاة والسلام فهذا معنى تبت يدا أبي لهب والمراد بالثاني الأخبار بهلاكه نفسه وذكر بكنيته لاشتهاره بها وقد أريد تشهيره بدعوة السوء وإن تبقى سمة له وذكره بأشهر علميه أوفق بذلك ويؤيد ذلك قراءة من قرأ {يدا أبو لهب} كما قيل علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع أو لكراهة ذكر اسمه القبيح أو لأنهلأكما روي عن مقاتل كان يكنى بذلك لتلهب وجنتيه واشراقهما فذكر بذلك تهكمًا به وبافتخاره بذلك أو لتجانس ذات لهب ويوافقه لفظًا ومعنى والقول بأنه ليس بتجنيس لفظي لأنه ليس في الفاصلة وهم فانهم لم يشترطوه فيه أو لجعله كناية عن الجهنمي فكأنه قيل تبت يدا جهنمي وذلك لأن انتسابه إلى اللهب كانتساب الأب إلى الولد يدل على ملابسته له وملازمته إياه كما يقال هو أبو الخير وأبو الشر وأخو الفضل وأخو الحرب لمن يلابس هذه الأمور ويلازمها وملازمته لذلك تستلزم كونه جهنميًا لزومًا عرفيًا فإن اللهب الحقيقي هو لهب جهنم فالانتقال من أبي لهب إلى جهنمي انتقال من الملزوم إلى اللازم أو بالعكس على اختلاف الرأيين في الكناية فإن التلازم بينهما في الجملة متحقق في الخارج والدهن إلا أن هذا اللزوم إنما هو بحسب الوضع الأول أعني الإضافي دون الثاني أعني العلمي وهم يعتبرون في الكنى المعاني الأصلية فأبو لهب باعتبار الوضع العلمي مستعمل في الشخص المعين وينتقل منه باعتبار وضعه الأصلي إلى ملابس اللهب وملازمه لينتقل منه إلى أنه جهنمي فهو كناية عن الصفة بالواسطة وهذا ما اختاره العلامة الثاني فعنده كناية بلا واسطة لأن معناه الأصلي أعني ملابس اللهب ملحوظ مع معناه العلمي.
والحق مع العلامة لأن أبا لهب يستعمل في الشخص المعين والمتكلم بناء على اعتبارهم المعاني الأصلية في الكنى ينتقل منه إلى المعنى الأصلي ثم ينتقل منه إلى الجهنمي ولا يلاحظ معه معناه الأصلي وإلا لكان لفظ {أبي لهب} في الآية مجازًا سواء لوحظ معه معناه الأصلي بطريق الجزئية أو التقييد لكونه غير موضوع للمجموع وما قيل إن المعنى الحقيقي لا يكون مقصودًا في الكناية وإن مناط الفائدة والصدق والكذب فيها هو المعنى الثاني وههنا قصد الذات المعين فليس بشيء لأن الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه فيجوز هاهنا أن يكون كلا المعنيين مرادًا.
وفي المفتاح تصريح بأن المراد في الكناية هو المعنى الحقيقي ولازمه جميعًا وزعم السيد أيضًا أن الكناية في أبي لهب لأنه اشتهر بهذا الاسم وبكونه جهنميًا فدل اسمه على كونه جهنميًا دلالة حاتم على أنه جواد فإذا أطلق وقصد به الانتقال إلى هذا المعنى يكون كناية عنه وفيه أنه يلزم منه أن تكون الكناية في مثله موقوفة على اشتهار الشخص بذلك العلم وليس كذلك فانهم ينتقلون من الكنية إلى ما يلزم مسماها باعتبار الأصل من غير توقف على الشهرة قال الشاعر:
قصدت أنا المحاسن كي أر اه ** لشوق كاد يجذبني إليه

فلما أن رأيت رأيت فردا ** ولم أر من بنيه ابنًا لديه

على أن فيه بعدما فيه.
وقرأ ابن محيصن وابن كثير {أبي لهب} بسكون الهاء وهو من تغيير الاعلام على ما في الكشاف.
وقال أبو البقاء الفتح والسكون لغتان وهو قياس على المذهب الكوفي.
{مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ} أي لم يغن عنه ماله حين حل به التباب على أن {ما} نافية ويجوز أن تكون استفهامية في محل نصب بما بعدها على أنها مفعول به أو مفعول مطلق أي أي اغناه أو أي شيء أغنى عنه ماله {وَمَا كَسَبَ} أي والذي كسبه على أن ما موصولة وجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه.
وقال أبو حيان إذا كان ما الأولى استفهامية فيجوز أن تكون هذه كذلك أي وأي شيء كسب أي لم يكسب شيئًا.
وقال عصام الدين يحتمل أن تكون نافية والمعنى ما أعبد عنه ماله مضرة وما كسب منفعة وظاهره أنه جعل فاعل كسب ضمير المال وهو كما ترى واستظهر في البحر موصوليتها فالعائد محذوف أي ولذي كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والاتباع أو ما أغنى عنه ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه أو ماله والذي كسبه من عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الضحاك أو من عمله الذي يظن انه منه على شيء كقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورًا} [الفرقان: 23] كما قال قتادة وعن ابن عباس ومجاهد ما كسب من الولد.
أخرج أبو داود عن عائشة مرفوعًا «أن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه».
وروي أنه كان يقول إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فإنا أفتدى منه نفسي بمالي وولدي وكان له ثلاثة أبناء عتبة ومعتب وقد أسلما يوم الفتح وسر النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامهما ودعا لهما وشهدا حنينًا والطائف وعتيبة بالتصغير ولم يسلم وفي ذلك يقول صاحب كتاب الالباء:
كرهت عتيبة إذ أجرما ** وأحببت عتبة إذ أسلما

كذا معتب مسلم فاحترز ** وخف أن تسب فتى مسلمًا

وكانت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتيبة ورقية أختها عند أخيه عتبة فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما رأسي ورأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد صلى الله عليه وسلم فطلقاهما إلا أن عتيبة المصغر كان قد أراد الخروج إلى الشام مع أبيه فقال لآتين محمدًا عليه الصلاة والسلام وأوذينه فأتاه فقال يا محمد أني كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى ثم تفل تجاه رسول الله: صلى الله عليه وسلم ولم يصبه عليه الصلاة والسلام شيء وطلق ابنته أم كلثوم فأغضبه عليه الصلاة والسلام بما قال وفعل فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» وكان أبو طالب حاضرًا فكره ذلك وقال له ما أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة فرجع إلى أبيه ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلًا فأشرف عليهم راهب من دير وقال لهم إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب أغيثوني يا معشر قريش في هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم خوفًا من الأسد فجاء أسد يتشمم وجوههم حتى أتى عتيبة فقتله وفي ذلك يقول حسان:
من يرجع العام إلى أهله ** فما أكيل السبع بالراجع

وهلك أبو لهب نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال فاجتنبه أهله مخافة العدوى وكانت قريش تتقيها كالطاعون فبقي ثلاثًا حتى انتن فلما خافوا العار استأجروا بعض السودان فاحتملوه ودفنوه.
وفي رواية حفروا له حفرة ودفعوه بعود حتى وقع فيها فقذفوه بالحجارة حتى واروه.
وفي أخرى انهم لم يحفروا له وإنما أسندوه لحائط وقذفوا عليه الحجارة من خلفه حتى توارى فكان الأمر كما أخبر به القرآن.
وقرأ عبد الله {وما اكتسب} بناء الافتعال.
{سيصلى نَارًا} سيدخلها لا محالة في الآخرة ويقاسي حرها والسين لتأكيد الوعيد والتنوين للتعظيم أي نارًا عظيمة {ذَاتَ لَهَبٍ} ذات اشتعال وتوقد عظيم وهي نار جهنم وجملة {ما أغنى} [المسد: 2] الخ.
قال في الكشف استئناف جوابًا عما كان ياول أنا افتدى بمالي ويتوهم من صدقه وفيه تحسير له وتهكم بما كان يفتخر به من المال والبنين وهذه الجملة تصوير للهلاك بما يظهر معه عدم اغناء المال والولد وهو ظاهر على تفسير ما كسب بالولد.
وقال بعض الأفاضل الأولى اشارة لهلاك عمله وهذه اشارة لهلاك نفسه وهو أيضًا على بعض الأوجه السابقة فتذكر ولا تغفل.
وقوله تعالى: {وامرأته} عطف على المستكن في {سيصلي} لمكان الفصل بالمفعول وقوله تعالى: {حَمَّالَةَ الحطب} نصب على الشتم والذم وقيل على الحالية بناء على أن الإضافية غير حقيقية للاستقبال على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان.
أخرج ابن عساكر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر رضي الله تعالى عنهما أن عقيل بن أبي طالب دخل على معاوية فقال معاوية له: أين ترى عمك أبا لهب من النار، فقال له عقيل: إذا دخلتها فهو على يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب.
ولا أظن صحة هذا الخبر عن الصادق لأن فيه ما فيه.
وكانت على ما في (البحر) عوراء ووسمت بذلك لأنها على ما أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل كانت تحمل حزمة الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريقة عليه الصلاة والسلام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير.
وروي عن قتادة أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه وعن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن أيضًا وروي عن ابن عباس والسدى ويقال لمن يمشي بها يحمل الحطب بين الناس أي يوقد بينهم النائرة ويؤرث الشر فالحطب مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة ومن ذلك قوله:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ** ولم تمش بين الحسن بالحطب الرطب

وجعله رطيا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ففيه إيغال حسن وكذا قول الراجز:
ان بني الأدرم حمالو الحطب ** هم الوشاة في الرضاء والغضب

وقال ابن جرير حمالة الخطايا والذنوب من قولهم فلأن يحطب على ظهره إذا كان يكتسب الآثام والخطايا والظاهر أن الحطب عليه مستعار للخطايا بجامع أن كلًا منها مبدى للاحراق وقيل الحطب جمع حاطب كحارس وحرس أي تحمل الجناة على الجنايات وهو محمل بعيد.
وقرأ أبو حيوة وابن مقسم {سيصلي} بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ومريئته بالتصغير والهم.
وقرئ {ومريته} بالتصغير وقلب الهمزة ياء وادغامها.
وقرأ الحسن وابن اسحق {سيصلي} بضم الياء وسكون الصاد.
واختلس حركة الهاء {في امرأته} أبو عمر وفي رواية وقرأ أبو قلابة {حاملة الحطب} على وزن فاعله مضافًا.
وقرأ الأكثرون {حمالة الخطب} بالرفع والإضافة.
وقرئ {حمالة للحطب} بالتنوين رفعًا ونصبًا وبلام الجر في الحطب.
وقوله تعالى: {فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في {حمالة} وقيل من {امرأته} المعطوف على الضمير وقيل الظرف حال منها و{حبل} مرتفع به على الفاعلية وقيل هو خبر لـ: {امرأته} وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير و{حبل} فاعل وعلى قراءة {حمالة} بالرفع قيل {امرأته} مبتدأ و{حمالة} خبر و{في جيدها} حبل خبر ثان أو حال من ضمير {حمالة} أو الظرف كذلك و{حبل} مرتفع به على الفاعلية أو {امرأته} مبتدأ و{حمالة} صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو {امرأته} عطف على الضمير و{حمالة} خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة ما بعد خبر ثان أو حال من ضمير {حمالة} على نظير ما مر.
وفي التركيب غير ذلك من أوجه الإعراب سيذكران إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه هاهنا غير مطرد على جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل.
والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلا شديدًا من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله:
ومسد أمر من أيانق ** ليست بأنياب ولا حقائق

أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسًا لحالها وتحقيرًا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذا كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحاله الحطب فقال:
ما ذا أردت إلى شتمى ومنقصتي ** أم ما تعير من حمالة الحطب

غراء شادخة في المجد غرتها ** كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

وقد أغضبها ذلك فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت بلغني أن صاحبك هجاني ولا فعلن وأفعلن وان كان شاعرًا فإنا مثله أقول:
مذمما أبينا ورينه ** قلينا وأمره عصينا

وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي أن أبا بكر قال لها هل ترى معي أحدا فقالت أتهزأ بي لا أرى غيرك فسكت أبو بكر ومضت وهي تقول قريش تعلم أني بنت سيدها فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام «لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله تعالى شرها» وقيل إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في {حمالة الحطب} [المسد: 4].
وفي الكشاف يحتمل أن يكون المعنى تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه وعليه فالحبل مستعار للسلسلة وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان وأمر الاعراب على ما في الكشف انه إن نصب {حمالة} يكون حالا هو والجملة أعني {في جيدها حبل} عن المعطوف على ضمير {سيصلي} أي ستصلي امرأته على هذه الحالة أو يكون {حمالة} نصبا على الذم والجملة وحدها حالا أو {امرأته} {في جيدها حبل} جملة وقعت حالا عن الضمير ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وإن يكون {امرأته} عطفًا على الفاعل و{حمالة الحطب في جيدها} جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بيانًا لكيفية صليها أي هي حمالة الحطب انتهى فتأمل ولا تغفل.
وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه في عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى: {في أعناقهم أغلالا} [يس: 8] والجيد مع الحلي كقوله:
وأحسن من جيد المليحة حليها

ولو قال عنقها كان غثا من الكلام قال في الروض الانف لأنه تهكم نحو {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] أي لا جيد لها فيحلى ولو كان لكانت حليته هذه ولتحقيرها قيل امرأته ولم يقل زوجه انتهى وهو بديع جدًا إلا أنه يعكر على آخره قوله تعالى: {وامرأته قائمة} [هود: 71] ولعله استعان هاهنا على ما قال بالمقام وعن قتادة انه كان في جيدها قلادة من ودع وفي معناه قول الحسن من خرز وقال ابن المسيب كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت واللات والعزى لانفقتها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها لأنفقنها إلخ وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى: {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 4] على ما نقلناه سابقًا عن قتادة ويحتمل غير ذلك ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفى وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو عن الذهن مناط الثريا نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء هذا.
واستشكل أمر تكليف أبي لهب بالايمان مع قوله تعالى: {سيصلى} إلخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه بأنه سيصلى النار لابد أن يصلاها ولا يصلاها إلا الكافر فالاخبار بذلك يتضمن الاخبار بأنه لا يؤمن أصلًا فمتى كان مكلفًا بالايمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومنه ما ذكر لزم أن يكون مكلفًا بأن يؤمن بأن لا يؤمن أصلًا وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الامكان وأجيب عنه بأن ما كلفه هو الايمان بجميع ما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إجمالًا لا الايمان بتفاصيل ما نطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الايمان بعدم إيمانه المستمر.
ويقال نحو هذا في الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين في قوله تعالى: {قُلْ يا أهل أَيُّهَا الكافرون} [الكافرون: 1] إلخ بالايمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] إلخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى: {سيصلى} إلخ ليس نصًا في أنه لا يؤمن أصلًا فإن صلى النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلى الله عليه وسلم.
وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام وقيل في خصوص هذه الآية أن المعنى سيصلى نارًا ذات لهب ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام واستدل بقوله تعالى: {وامرأته} على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم. اهـ.